محراب القضاء

أفسد هواء القاعة ثقل الهزائم، وتحدثت الخسائر بألف صوت متحديةً الصمت الذي جلس فيه خالد وحده. كانت الأوراق متناثرة على الطاولة، ممتلئة بخطوط واستراتيجيات عقيمة انتهت إلى العدم. كل خطة كانت تؤول إلى فشل محتَّم. تنقلت عينا خالد بينها ببطء، وكأنه يبحث عن بصيص من المنطق وسط الفوضى التي وجد نفسه فيها.

بعض الأوراق لم تكن تحمل سوى أسماء... أسماء أولئك الذين تبخروا من الوجود، الذين هربوا من الواقع وقبلوا بكذبة دانا. كان عددهم ثلثي ما تبقى من البشرية، ما يقارب الـ 600 ألف، وكان أول هذه الأسماء تيستوروسا ودانا. نزع عينيه بقوة عن الاسمين هذين بصعوبة.

عبر النافذة المفتوحة الوحيدة، انسكب ضوء القمر الأحمر كأنه تذكارٌ لائم، قاطعًا الظلام ليضيء نصف وجهه، وكأنه شعاع يزن بين كفتين غير متساويتين—بين خيارين لا يحمل أيٌّ منهما الخلاص. كان جالسًا بصمت، عميقًا في أفكاره، حتى انقطع نور القمر الأحمر فجأة.

شخصٌ ما وقف بينه وبين الضوء.

لم يرفع خالد نظره على الفور، بل استمر يحدق في الأوراق، وترك الصمت يتمدد بينهما كحبل مشدود. وأخيرًا، بصوت هادئ كحد السكين، قال:

"لو لم نكن في وهم الآن، لكنتُ ضربت عنقك قبل أن تخطو خطوة واحدة."

جاء الرد بنفس الهدوء، لكنه حمل في طياته شيئًا يشبه الابتسامة غير المرئية:

"هم... قل لي، كيف عرفت؟"

قال خالد وهو لا يزال يحدق بالأوراق المتناثرة:

"لم أنم بعد."

ضحك الضيف وردّ:

"أوه، يا لها من فطنة! ولكن لا تضحك على نفسك... سواء كنا في وهم أو في حقيقة، فلن تقدر على ذلك."

"إذن لماذا أتيتني في الوهم؟ لماذا لم تواجهني في الحقيقة؟"

"لأن الأوهام هي حقيقتي."

"بل أنت لا تستطيع أن تواجه أحدًا إلا في وهم... إما خوفًا منك، أو لأنك لا تقدر إلا على ذلك."

"استنتاج صائب آخر يا خالد... وهم... لكنني أستطيع أن أقدم لك الهدايا هنا."

ارتفع حاجب خالد قليلًا إشارةً إلى اهتمامه، لكنه لم يغيّر نبرته وهو يجيب:

"الهدايا تأتي مع الديون."

رد الضيف:

"لن تدين لي بشيء، ولن أدين لك بشيء بعد هذه الهدية."

قال خالد ببرود:

"بل أنت مدين لي بشيء بالفعل."

"وما هو؟"

"اسمك."

توقف الرجل لوهلة قبل أن يجيب بهدوء قاتل:

"الأسماء للناس... وأنا لست منهم."

رفع خالد نظره إليه أخيرًا، لكن ملامحه كانت كالدخان، تتبدل باستمرار، لا يستقر لها شكل، وكأن حضوره نفسه شيء خارج عن قوانين الفهم.

ثم قال خالد وكأنه يلقي حجرًا في ماء راكد:

"إن لم تكن من الناس، فلمن تنتمي؟"

لم تهتز نبرة الغريب، وكأن خالد لم يفعل سوى إعادة سؤال يعرف إجابته مسبقًا:

"للأفكار... للظلال التي تحيا بين الكلمات... للفراغ الذي يملأ القلوب حين تتيقن أنها ضلّت الطريق وفقدت الأمل."

أدار خالد رأسه قليلًا كأنه يقيس عمق المعنى خلف هذه الكلمات، ثم قال:

"إذن أنت شيء لا اسم له، لا وجه له، مجرد فراغ يتنقل بيننا؟"

ابتسم الغريب—أو فار الدخان عند فمه، أو هكذا خُيّل لخالد—قبل أن يجيب بصوت بارد:

"لستُ الفراغ، لكنني مَن يملؤه."

ساد الصمت للحظة، ثم أمال خالد رأسه عنه قليلًا، نبرته لم تتغير لكنها حملت ثِقَل إدراك خفي:

"وهل جئت لتملأ فراغًا هنا؟"

"بل جئتُ لأريك ما لا تراه."

"أخبرني، يا من لا اسم لك، هل تأتي دائمًا محمَّلًا بهذه الألغاز، أم أنك تخشى قول الحقيقة مباشرة؟"

"الحقيقة لا تُقال يا خالد، بل تُكشف. وأنا هنا كي أرفع الستار."

"وما الذي يجعلني أثق بك؟"

"لا شيء. ولا حاجة لك بالثقة، ولا أنصحك بالثقة بشكل عام. كل ما عليك فعله... هو أن ترى."

فرسان القيامة الأربعة

سال الدخان من الغريب وغلف خالد وهو على كرسيه، وانفتحت عينا خالد على مشهد لم يكن له وجود قبل لحظة. لم تكن القاعة، لم تكن الحرب، لم يكن هناك شيء سوى الفراغ... والاختيار.

أربعة فرسان، أربعة كيانات، أربعة مصائر:

الأول: رجل ضخم يمشي في صحراء قاحلة، متعب، مرهق، عطشان. أثقلته سلاسل التصقت بدرعه وجلده، يجر خلفه تابوتًا عظيمًا لا يُفتح ولا يُكسر، لكنه يحمل في داخله شيئًا أثقل من السلاسل نفسها.

الثاني: طيف يضحك، متوهج، جسده جمر متقد، ينبعث منه لهيب يستهلك كل شيء حوله—حتى نفسه.

الثالثة: امرأة غارقة في نهر من الدماء يسيل من جسدها، تنبت من ظهرها زنابق الموت البيضاء، وشعرها تسلل إلى النهر كله.

الرابعة: امرأة جميلة مغطاة بثوب أبيض، تطير حولها طيور السنونو الصغيرة، تلتهم جسدها ووجهها.

لم يكن خالد يعرف من هم، لكنه رأى كل شيء بوضوح.

الطريق المسدود

تغير المشهد فجأة. رأى خالد كل الطرق التي سلكها وسوف يسلكها، كل الخيارات التي اتخذها والتي سيتخذها، كل الأخطاء التي بدت صائبة حينها لكنها أدت إلى الخراب. حربٌ لا نصر فيها. رأى المدن تنهار، والمعارك تُباد، ومحاولاته لإنقاذ الباقين تتلاشى كالدخان.

جنة دانا

رأى أورايون في جنة عدن وقد تسلل إليها بشكل ما، يهمس للناس ببذور الشك، ورأى تيستوروسا يجلس على عرش معلق بالسلاسل في السقف، يحيطه الظلام ثم الحزن.

المواجهة الأخيرة

في تلك اللحظة التي بدا فيها الوهم وكأنه ينفصل عن الواقع، والعالم يعود إلى ما كان عليه، أدرك خالد أن الوقت قد حان للتحدي. وقف في وسط قاعة الحرب المظلمة، حيث الأوراق المتناثرة والخرائط البالية كانت شاهدةً على صراعاتٍ لم تنتهِ بعد، وحلّق بخياله إلى ما وراء حدود الواقع.

مدَّ خالد يده بقوة، كأنَّ إرادته ستشق طريقها عبر عمق الفراغ الذي بدأ يحيط به.

خرق الخيال، وخرق الوهم، وأقحم نفسه داخل عقل الرجل الغريب.

وفجأة، وجد نفسه في عالم لا يُحتمل من الظلام.

"لا شيء... لا شيء هنا."

تردد الصوت في الفراغ:

"بل هنا كل شيء... إلا الفراغ."

وسمع الرد يهز أعماق الظلام:

"هنا البداية والنهاية... لكن عقلك، يا خالد، بسيط، وحواسك لا تعقل ما هنا. عد من حيث أتيت، ولا تحاول ذلك مرة أخرى."